في زمنٍ عزّ فيه الرجال المخلصون، وازدحمت فيه المشاهد السياسية بمن يلهثون خلف المكاسب والمناصب، يبرز اسم الدكتور محمود شائف كنموذج نادر، بقي وفيًّا للمبدأ، ثابتًا على طريق الوطنية، لا تغيره الرياح ولا تشتته العواصف.
لم يكن يومًا طامعًا في سلطة، ولا متلهفًا إلى منصب. بل كان حضوره الدائم نابعًا من قناعة راسخة: أن خدمة الوطن لا تحتاج إلى كرسي، بل إلى ضمير حي.
عرفه الناس عالمًا، مثقفًا، عُرف بصلابته الهادئة، وبتواضعه الشديد، ورجلًا يحمل همّ وطنه في قلبه. مواقفه لم تكن يومًا مرهونة بحسابات سياسية ضيقة، بل انبثقت من حسّ وطني عميق جعله يقف حيث يجب أن يكون، لا حيث تكون الأضواء.
واليوم، في لحظة مفصلية، يُعيّن الدكتور محمود شائف في موقعٍ ضمن دائرة القرار، في وقتٍ يحتاج الوطن فيه إلى رجالٍ من طراز د. محمود، رجالٍ اختبرتهم المراحل الصعبة، وعرفهم الناس بصدقهم، وبعدهم عن المزايدات، يرون في المسؤولية تكليفًا لا تشريفًا.
لم يكن يبحث عن الضوء… بل عن الحق
لم يكن يومًا ساعيًا إلى كرسي، ولا متعطشًا للواجهة. بل كان دائمًا يعمل بعيدًا عن الأضواء، يُضيء بإصراره مساحات العتمة، ويواجه – بضمير الباحث – ما تواطأ عليه الصمت السياسي.
تجده هادئًا، وحين يتحدث، بلغةٍ نزيهة تُربك المزايدين. وحين يتحدث، يتحدث كمن يحمل وطنًا في قلبه
صلابة المثقف ونزاهة المناضل
رجلٌ يجمع بين صفات نادرًا ما تجتمع: أستاذ جامعي، وباحث حقوقي، ومثقف مشغول بهمّ وطنه.
ليس من السهل أن يجتمع في شخص واحد وعي المثقف، وأخلاق المناضل، وهدوء الباحث الأكاديمي. لكنه كان استثناءً نادرًا. حمل قضايا وطنه في قلبه، لم يسمح للضغوط والأزمات أن تُفسد نزاهة الكلمة أو وضوح الرؤية.
عمل طويلًا من خارج دائرة القرار، لكنه كان دومًا في قلب الحدث. لم يكن خصمًا لأحد بقدر ما كان خصمًا لكل ما يهدد الوطن.
رجل من زمن مختلف
في مقره الحقوقي، دق ناقوس الخطر مبكرًا. لم يسعَ لكسب ودّ سلطة أو حزب، بل وضع الحقيقة كما هي، بكل مرارتها.
كشف عن انتهاكات ترتقي لجرائم حرب ، حين كان كثيرون يلوذون بالصمت أو يحتمون خلف الاصطفافات السياسية.
لم يساوم، ولم يُرِد شيئًا سوى أن تُقال الحقيقة كما هي، دون تزييف أو تبرير.
لم يكن مستغربًا على أستاذ جامعي مثله أن يُدرك أهمية التوثيق، إذ اعتبر توثيق الانتهاكات مسؤولية وطنية وأخلاقية، لا تسقط بالتقادم. بالنسبة له، لم تكن الأرقام مجرد بيانات، بل شواهد حيّة على جراح لم تُشفَ بعد، وعلى حقوق لا ينبغي أن تُنسى.
وبرغم كل الخيبات والانكسارات، لم يعرف اليأس طريقًا إلى قلبه؛ ظل متمسكًا بالأمل. يرى في الوطن مشروعًا لا يموت، بل يتجدد في كل من يؤمن بالصدق والعمل. لم يفقد ثقته بأن الغد يكون أفضل، حين تسقط الأقنعة عن من يتلاعبون بأزمات شعب مطحون في حرب وفقر ونقص خدمات .
شهادة من القلب
في مشهد سياسي متقلّب، وجدته لم يُساوم يومًا، ولم يُغيّر قناعاته حسب اتّجاه الريح.
عرفته عن قرب خلال زياراتي إلى عدن… لم يتهرب من الأسئلة، ولم يختبئ خلف العبارات المنمّقة. كان واضحًا، مباشرًا، وشفافًا إلى حد الألم.
كان يتعامل مع كل انتهاك، وكل حادثة، كجرح مفتوح في قلب الوطن، لا كأرقام تمرّ في التقارير.
حدّثني عن أناس يُغتالون في صمت، ثم يُطوى ملفهم تحت لافتة "ضد مجهول" ، رغم أن الجميع يعرف الحقيقة: من حرّض، ومن نفّذ، ومن بارك الجريمة.
حدّثني عن شبابٍ حالمين، كان ذنبهم الوحيد أنهم أرادوا وطنًا آمنًا، فدُفعوا إلى نهايات موجعة، وسط صمت مريب.
تحدثنا عن تفجير معسكر الصولبان، لا كخبر عابر، بل كجرح لم يندمل بعد.
عن أولئك الذين وقفوا في وجه الحوثي، فكان ردّ الجميل اغتيالًا غادرًا في وضح النهار.
عن الوجع الذي يتجدد كل يوم في هذه البلاد، حدثني عن جرائم ترتقي لجرائم حرب في الضالع وأبين وشبوة وغيرها ، لا يحكي لي كخبير حقوقي فحسب، بل كمن عاش الألم وعرف حجم الخسارات.
ورغم كل ذلك، لم يكن منهزمًا. كان يؤمن أن الأمل هو ما يمنحنا القوة على الاستمرار. ظل مؤمنًا أن "في آخر النفق، بصيص أمل"، كان مؤمن باستكمال طريقه مهما كان التحديات لصنع فرق، ولو صغير.
كان يرى أن العدالة ممكنة، وأن كسر الصمت ليس شجاعة فردية، بل التزام أخلاقي مستمر تجاه الوطن… مهما طال الطريق.
"في كل مرة تحدّث فيها عن الوطن، كنت أستحضر كلمات محمود درويش:
"الوطن ليس سؤالًا تجيب عنه وتمضي... إنه حياتك وقضيتك معًا"
"الانتماء لوطنه" كان جزءًا من تكوينه، لا يساوم عليه،
يؤمن أن حب الوطن ليس شعارًا بل مسؤولية، ولا يُختزل في قرار، بل هو مشروع مستمر من الصدق والتضحية.
تُثبته المواقف وتُعزّزه الأفعال: ليبقى كما عهدناه.
وفي ظل تعقيدات المشهد السياسي، وجود شخصية بمثل نزاهة الدكتور محمود شائف في دائرة القرار يمثل طمأنينة للجميع. فهو الذي عرفناه دائمًا رجل المبادئ والضمير، لا يساوم ولا يتبدل، يحمل الوطن على عاتقه من موقع الحقوقي، والأكاديمي، ومن موقع المواطن الذي لا يقبل المساومة ولا يتبدل ولا يخون.. ليبقى على عهده، كما عهدناه، حارسًا للحق.